الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
والجهمية والمعتزلة مشتركون في نفي الصفات، وابن كلاب ومن تبعه- كالأشعري وأبي العباس القلانسي ومن تبعهم - أثبتوا الصفات، لكن لم يثبتوا الصفات الاختيارية مثل كونه يتكلم بمشيئته، ومثل كون فعله الاختياري يقوم بذاته، ومثل كونه يحب ويرضى عن المؤمنين بعد إيمانهم، ويغضب ويبغض الكافرين بعد كفرهم، ومثل كونه يرى أفعال العباد بعد أن يعملوها، كما قال تعالى: والقرآن والأحاديث وأقوال السلف والأئمة كلها تخالف هذا وهذا،وتبين أنه ناداه حين جاء، وأنه يتكلم بمشيئته في وقت بكلام معين، كما قال: والقرآن فيه مئون من الآيات تدل على هذا الأصل، وأما الأحاديث فلا تحصى، وهذا قول أئمة السنة والسلف وجمهور العقلاء؛ ولهذا قال عبد اللّه بن المبارك والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما: لم يزل متكلمًا إذا شاء وكيف شاء. وهذا قول عامة أهل السنة؛ فلهذا اتفقوا على أن القرآن كلام اللّه منزل غير مخلوق، ولم نعرف عن أحد من السلف أنه قال: هو قديم لم يزل. والذين قالوا من المتأخرين: هو قديم، كثير منهم من لم يتصور المراد، بل منهم من يقول: هو قديم في علمه، ومنهم من يقول: قديم، أي متقدم الوجود، متقدم على ذات زمان المبعث، لا أنه أزلي لم يزل، ومنهم من يقول: بل مرادنا بقديم أنه غير مخلوق، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه على هذا الأصل إذا خلق المخلوقات رآها وسمع أصوات عباده، وكان ذلك بمشيئته وقدرته؛ إذ كان خلقه لهم بمشيئته وقدرته، وبذلك صاروا يرون ويسمع كلامهم. وقد جاء في القرآن والسنة في غير موضع أنه يخص بالنظر والاستماع بعض المخلوقات، كقوله: (ثلاثة لا يكلمهم اللّه، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: مَلِك كذاب، وشيخ زان، وعائل مُستكبر). وكذلك في الاستماع، قال تعالى: وكذلك سمع الإجابة، كقوله: (سمع اللّه لمن حمده)، وقول الخليل: لكن مع ذلك هل يقال: إن نفس الرؤية والسمع الذي هو مطلق الإدراك هو من لوازم ذاته، فلا يمكن وجود مسموع ومرئى إلا وقد تعلق به كالعلم؟ أو يقال: إنه أيضًا بمشيئته وقدرته فيمكنه ألا ينظر إلى بعض المخلوقات؟ هذا فيه قولان: والأول قول من لا يجعل ذلك متعلقًا بمشيئته وقدرته، وأما الذين يجعلونه متعلقًا بمشيئته وقدرته فقد يقولون: متى وجد المرئي والمسموع وجب تعلق الإدراك به. والقول الثاني: أن جنس السمع والرؤية يتعلق بمشيئته وقدرته، فيمكن ألا ينظر إلى شيء من المخلوقات، وهذا هو المأثور عن طائفة من السلف، كما روى ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني قال: ما نظر اللّّه إلى شيء من خلقه إلا رحمه، ولكنه قضى ألا ينظر إليهم. وقد يقال: هذا مثل الذكر والنسيان، فإن اللّه تعالى قال: وقد فسروا هذا النسيان بأنه....[بياض بالأصل] وهذا النسيان ضد ذلك الذكر، وفي الصحيح في حديث الكافر يحاسبه قال: (أفظننت أنك ملاقي؟) قال: لا. قال: (فاليوم أنساك كما نسيتني)، فهذا يقتضي أنه لا يذكره كما يذكر أهل طاعته، هو متعلق بمشيئته وقدرته أيضًا، وهو ـ سبحانه ـ قد خلق هذا العبد وعلم ما سيعمله قبل أن يعمله، ولما عمل علم ما عمل ورأى عمله، فهذا النسيان لا يناقض ما علمه ـ سبحانه ـ من حال هذا.
جماع الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك: أن يجعل ما بعث اللّه به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل وافقه أو خالفه لكون ذلك الكلام مجملا لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده ولكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه، أو تكذيبه، فإنه يمسك فلا يتكلم إلا بعلم. والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول. وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في أمور دنيوية، مثل:الطب والحساب والفلاحة والتجارة. وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية، فهذه العلم فيها مأخذه عن الرسول، فالرسول أعلم الخلق بها، وأرغبهم في تعريف الخلق بها، وأقدرهم على بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في العلم والقدرة والإرادة. وهذه الثلاثة بها يتم المقصود، ومن سوى الرسول إما أن يكون في علمه بها نقص أو فساد، وإما ألا يكون له إرادة فيما علمه من ذلك، فلم يبينه إما لرغبة، وإما لرهبة، وإما لغرض آخر، وإما أن يكون بيانه ناقصًا ليس بيانه البيان عما عرفه الجنان. وبيان الرسول على وجهين: تارة يبين الأدلة العقلية الدالة عليها، والقرآن مملوء من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على المعارف الإلهية والمطالب الدينية. وتارة يخبر بها خبرًا مجردًا لما قد أقامه من الآيات البينات، والدلائل اليقينيات على أنه رسول اللّه المبلغ عن اللّه، وأنه لا يقول عليه إلا الحق، وأن اللّه شهد له بذلك، وأعلم عباده وأخبرهم أنه صادق مصدوق فيما بلغه عنه، والأدلة التي بها نعلم أنه رسول اللّه كثيرة متنوعة، وهي أدلة عقلية تعلم صحتها بالعقل، وهي أيضًا شرعية سمعية، لكن الرسول بينها ودل عليها وأرشد إليها، وجميع طوائف النظار متفقون على أن القرآن اشتمل على الأدلة العقلية في المطالب الدينية، وهم يذكرون ذلك في كتبهم الأصولية، وفي كتب التفسير، وعـامة النظار أيضًا يحتجـون بالأدلـة السمعية الخبرية المجردة فـي المطـالب الدينية، فإنه إذا ثبت صدق الرسول وجب تصديقه فيما يخبر به. والعلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالأدلة العقلية، وأحسن الأدلة العقلية التي بينها القرآن وأرشد إليها الرسول، فينبغي أن يعرف أن أجلَّ الأدلة العقلية وأكملها وأفضلها مأخوذ عن الرسول؛ فإن من الناس من يذهل عن هذا، فمنهم من يقدح في الدلائل العقلية مطلقًا؛ لأنه قد صار في ذهنه أنها هي الكلام المبتدع الذي أحدثه من أحدثه من المتكلمين، ومنهم من يعرض عن تدبر القرآن وطلب الدلائل اليقينية العقلية منه؛ لأنه قد صار في ذهنه أن القرآن إنما يدل بطريق الخبر فقط، فلابد أن يعلم بالعقل قبل ذلك ثبوت النبوة وصدق الخبر، حتى يستدل بعد ذلك بخبر من ثبت بالعقل صدقه، ومنها ما لا يعلمه غير الأنبياء إلا بخبر الأنبياء، وخبرهم المجرد هو دليل سمعي، مثل تفاصيل ما أخبروا به من الأمور الإلهية، والملائكة والعرش، والجنة والنار، وتفاصيل ما يؤمر به وينهى عنه. فأما نفس إثبات الصانع ووحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته وحكمته، ورحمته ونحو ذلك ـ فهذا لا يعلم بالأدلة العقلية، وإن كانت الأدلة والآيات التي يأتي بها الأنبياء هي أكمل الأدلة العقلية، لكن معرفة هذه ليست مقصورة على الخبر المجرد، وإن كانت أخبار الأنبياء المجردة تفيد العلم اليقيني أيضًا، فيعلم بالأدلة العقلية التي أرشدوا إليها، ويعلم بمجرد خبرهم لما علم صدقهم بالأدلة والآيات والبراهين التي دلت على صدقهم. وقد تنازع الناس في العلم بالمعاد، وبحسن الأفعال وقبحها. فأكثر الناس يقولون: إنه يعلم بالعقل مع السمع، والقائلون بأن العقل يعلم به الحسن والقبح أكثر من القائلين بأن المعاد يعلم بالعقل، قال أبو الخطاب: هو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، ومنهم من يقول: المعاد والحسن والقبح لا يعلم إلا بمجرد الخبر، وهو قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من أتباع الأئمة كالقاضي أبي يعلي، وأبى المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي وغيرهم، وكلهم متفقون على أن من العلوم ما يعلم بالعقل والسمع الذي هو مجرد الخبر، مثل كون أفعال العباد مخلوقة للّه أو غير مخلوقة، وكون رؤيته ممكنة أو ممتنعة ونحو ذلك. وكتب أصول الدين لجميع الطوائف مملوءة بالاحتجاج بالأدلة السمعية الخبرية، لكن الرازي طعن في ذلك في [المطالب العالية] قال: لأن الاستدلال بالسمع مشروط بألا يعارضه قاطع عقلي، فإذا عارضه العقلي وجب تقديمه عليه. قال: والعلم بانتفاء المعارض العقلي متعذر، وهو إنما يثبت بالسمع ما علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به كالمعاد، وقد يظن أن هذه طريقة أئمته الواقفة في الوعيد، كالأشعري، والقاضي أبي بكر وغيرهما، وليس كذلك؛ فإن هؤلاء إنما وقفوا في أخبار الوعيد خاصة؛ لأن العموم عندهم لا يفيد القطع، أو لأنهم لا يقولون بصيغ العموم، وقد تعارضت عندهم الأدلة، وإلا فهم يثبتون الصفات الخبرية للّه، كالوجه واليد بمجرد السمع والخبر، ولم يختلف قول الأشعري في ذلك، وهو قول أئمة أصحابه، لكن أبو المعالي وأتباعه لا يثبتون الصفات الخبرية، بل فيهم من ينفيها ومنهم من يقف فيها كالرازي والآمدي، فيمكن أن يقال: قول الأشعري ينتزع من قول هؤلاء بأن يقال: لا يعرف أنهم اعتمدوا في الأصول على دليل سمعي، لكن يقال: المعاد يحتجون عليه بالقرآن والأحاديث، ولكن الرازي هو الذي سلك فيه طريق العلم الضروري أن الرسول جاء به. وفي الحقيقة، فجميع الأدلة اليقينية توجب علمًا ضروريًا، والأدلة السمعية الخبرية توجب علمًا ضروريًا بأخبار الرسول، لكن منها ما تكثر أدلته كخبر الأخبار المتواترة، ويحصل به علم ضروري من غير تعيين دليل، وقد يعين الأدلة ويستدل بها، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن يؤخذ من الرسول العلوم الإلهية الدينية سمعيها وعقليها، ويجعل ما جاء به هو الأصول لدلالة الأدلة اليقينية البرهانية على أن ما قاله حق جملة وتفصيلا، فدلائل النبوة عامتها تدل على ذلك جملة، وتفاصيل الأدلة العقلية الموجودة في القرآن والحديث تدل على ذلك تفصيلا. وأيضًا، فإن الأنبياء والرسل إنما بعثوا بتعريف هذا، فهم أعلم الناس به وأحقهم بقيامه وأولاهم بالحق فيه. وأيضًا،فمن جرب ما يقولونه ويقوله غيرهم وجد الصواب معهم، والخطأ مع مخالفيهم، كما قال الرازي ـ مع أنه من أعظم الناس طعنًا في الأدلة السمعية، حتى ابتدع قولاً ما عرف به قائل مشهور غيره، وهو أنها لا تفيد اليقين، ومع هذا فإنه يقول ـ: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروى غليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: وأيضًا، فمن اعتبر ما عند الطوائف الذين لم يعتصموا بتعليم الأنبياء وإرشادهم وإخبارهم وجدهم كلهم حائرين،ضالين شاكين مرتابين، أو جاهلين جهلا مركبًا، فهم لا يخرجون عن المثلين اللذين في القرآن:
وأهل الضلال، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، هم كما قال مجاهد: أهل البدع والشبهات؛ يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل، كما قال فيهم الإمام أحمد، قال: هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يحتجون بالمتشابه من الكلام، ويضلون الناس بما يشبهون عليهم. والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون: نفوّض معناه إلى اللّه، وهذا فعل عامتهم. وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة، يجب اتباعها واعتقاد موجبها، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول، ويجعلون كلام اللّه ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا اللّه، أو لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم، والراسخون عندهم من كان موافقًا لهم على ذلك القول، وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب وترك المحكم، كالنصارى، والخوارج، وغيرهم؛ إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام اللّه وجعلوه محكمًا، وجعلوا المحكم متشابهًا. وأما أولئك ـ كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، وكالفلاسفة ـ فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء، وإن كان صريحًا قد يعلم معناه بالضرورة، يجعلونه من المتشابه؛ ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع، حتى قال يوسف بن أسباط وعبد اللّه بن المبارك وغيرهما ـ كطائفة من أصحاب أحمد: إن الجهمية نفاة الصفات خارجون عن الثنتين وسبعين فرقة، قالوا: وأصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن في قوله تعالى: أحدهما: أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم، كما قال: وقد صنف أحمد كتابًا في (الرد على الزنادقة والجهمية) فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولوه على غير تأويله، وفسر تلك الآيات كلها وذمهم على أنهم تأولوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامتها آيات معروفة قد تكلم العلماء في تفسيرها، مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق ابن عباس. قال الحسن البصري: ما أنزل اللّه آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت، وماذا عني بها. ومن قال من السلف: إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا اللّه فقد أصاب أيضًا، ومراده بالتأويل ما استأثر اللّه بعلمه، مثل وقت الساعة، ومجىء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعده في الجنة لأوليائه. وكان من أسباب نزول الآية احتجاج النصارى بما تشابه عليهم، كقوله: {إنَّا} و{نحن}، وهذا يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم الذي له أعوان، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة، فتأويل هذا الذي هو تفسيره يعلمه الراسخون، ويفرقون بين ما قيل فيه: {إيَّاي} وما قيل فيه: {إنَّا} لدخول الملائكة فيما يرسلهم فيه، إذ كانوا رسله، وأما كونه هو المعبود الإله فهو له وحده؛ ولهذا لا يقول: فإيانا فاعبدوا، ولا إيانا فارهبوا، بل متى جاء الأمر بالعبادة والتقوى والخشية والتوكل ذكر نفسه وحده باسمه الخاص، وإذا ذكر الأفعال التي يرسل فيها الملائكة قال: والمقصود هنا أن الواجب أن يجعل ما قاله اللّه ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي، وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ: يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد. وهذا مثل لفظ [المركب] و [الجسم] و [المتحيز] و [الجوهر] و [الجهة] و [العرض] ونحو ذلك، ولفظ [الحيز] ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ، لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة أيضًا، بل هم يختصون بالتعبير بها على معان لم يعبر غيرهم عن تلك المعاني بهذه الألفاظ، فيفسر تلك المعاني بعبارات أخرى، ويبطل ما دل عليه القرآن بالأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وعرف وجه الكلام على أدلتهم، فإنها ملفقة من مقدمات مشتركة، يأخذون اللفظ المشترك في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، فهو في صورة اللفظ دليل، وفي المعنى ليس بدليل، كمن يقول: سهيل بعيد من الثريا، لا يجوز أن يقترن بها، ولا يتزوجها، والذي قال: أيها المنكح الثريا سهيلا أراد امرأة اسمها الثريا، ورجلا اسمه سهيل. ثم قال: عمرك اللّه كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ** وسهيل إذا استقل يمان وهذا لفظ مشترك، فجعل يعجبه، وإنكاره من الظاهر من جهة اللفظ المشترك، وقد بسط الكلام على أدلتهم المفصلة في غير موضع. والأصل الذي بني عليه نفاة الصفات وعطلوا ما عطلوه حتى صار منتهاهم إلى قول فرعون الذي جحد الخالق، وكذب رسوله موسي في أن اللّه كلمه، هو استدلالهم على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة، واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث، ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، وهذا أصل قول الجهمية الذين أطبق السلف والأئمة على ذمهم، وأصل قول المتكلمين الذين أطبقوا على ذمهم، وقد صنف الناس مصنفات متعددة فيها أقوال السلف والأئمة في ذم الجهمية، وفي ذم هؤلاء المتكلمين. والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر اللّه به رسوله، والاستدلال بما بينه اللّه ورسوله، بل ولا ذموا كلامًا هو حق، بل ذموا الكلام الباطل، وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضًا وهو الباطل، فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل. ولكن كثيرًا من الناس خفي عليه بطلان هذا الكلام، فمنهم من اعتقده موافقًا للشرع والعقل، حتى اعتقد أن إبراهيم الخليل استدل به، ومن هؤلاء من يجعله أصل الدين ولا يحصل الإيمان أو لا يتم إلا به، ولكن من عرف ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة علم بالاضطرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، فصار من عرف ذلك يعرف أن هذا بدعة، وكثير منهم لا يعرف أنه فاسد، بل يظن مع ذلك أنه صحيح من جهة العقل، لكنه طويل أو يبعد المعرفة، أو هو طريق مخيفة مخطر يخاف على سالكه، فصاروا يعيبونه كما يعاب الطريق الطويل والطريق المخيف، مع اعتقادهم أنه يوصل إلى المعرفة، وأنه صحيح في نفسه. وأما الحذاق العارفون تحقيقه فعلموا أنه باطل عقلا وشرعًا، وأنه ليس بطريق موصل إلى المعرفة، بل إنما يوصل لمن اعتقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك. ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك؛ إذ كان حقيقته أن كل موجود فهو حادث مسبوق بالعدم، وليس في الوجود قديم، وهذا مكابرة؛ فإن الوجود مشهود، وهو إما حادث وإما قديم، والحادث لابد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين. وكذلك ما ابتدعه في هذه الطريق ابن سينا وأتباعه من الاستدلال بالممكن على الواجب أبطل من ذلك، كما قد بسط ذلك في غير هذا الموضع، وحقيقته أن كل موجود فهو ممكن ليس في الوجود موجود بنفسه، مع أنهم جعلوا هذا طريقًا لإثبات الواجب بنفسه، كما يجعل أولئك هذا طريقًا لإثبات القديم، وكلاهما يناقض ثبوت القديم والواجب فليس في واحد منهما إثبات قديم ولا واجب بنفسه، مع أن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم بالضرورة. ولهذا صار حذاق هؤلاء إلى أن الموجود الواجب والقديم هو العالم بنفسه، وقالوا: هو اللّه، وأنكروا أن يكون للعالم رب مباين للعالم؛ إذ كان ثبوت القديم الواجب بنفسه لابد منه على كل قول، وفرعون ونحوه ممن أنكر الصانع ما كان ينكر هذا الوجود المشهود، فلما كان حقيقة قول أولئك يستلزم أنه ليس موجود قديم ولا واجب، لكنهم لا يعرفون أن هذا يلزمهم،بل يظنون أنهم أقاموا الدليل على إثبات القديم الواجب بنفسه. ولكن وصفوه بصفات الممتنع، فقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه ولا هو صفة ولا موصوف، ولا يشار إليه، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تستلزم عدمه، وكان هذا مما تنفر عنه العقول والفطر، ويعرف أن هذا صفة المعدوم الممتنع لا صفة الموجود، فدليلهم في نفس الأمر يستلزم أنه ما ثَمَّ قديم ولا واجب، ولكن ظنوا أنهم أثبتوا القديم والواجب، وهذا الذي أثبتوه هو ممتنع، فما أثبتوا قديمًا ولا واجبًا. فجاء آخرون من جهميتهم فرأوا هذا مكابرة، ولابد من إثبات القديم والواجب، فقالوا: هو هذا العالم، فكان قدماء الجهمية يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وهؤلاء قالوا: هو عين الموجودات، والموجود القديم الواجب هو نفس الموجود المحدث الممكن، والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه، وأما حقيقة قولهم فهو النفي أنه لا داخل العالم ولا خارجه،ولكن هذا لم تسمعه الأئمة، ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم؛ ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان، ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية، وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام: جهمية الأوصاف إلا أنها ** قد حليت بمحاسن الأشياء وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب، فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر؛ إذ كان خلاف ما يعلمه كل أحد ببديهة عقله، فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم، لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها، ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث لا يحدث بنفسه؛ ولهذا قال تعالى: ومعرفة الفطر أن المحدث لابد له من محدث أظهر فيها، من أن كل محدث لابد له من مادة خلق منها وغاية خلق لها؛ فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم ينازع في الأول، طائفة قالت: إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال: إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، و إما أن يقول: إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكي عمن لا يعرف. ومثل هذا القول وأمثاله يقوله من يقوله ممن حصل له فساد في عقله، صار به إلى السفسطة، والسفسطة تعرض لآحاد الناس، وفي بعض الأمور، ولكن أمة من الأمم كلهم سوفسطائية في كل شيء، هذا لا يتصور؛ فلهذا لا يعرف عن أمة من الأمم أنهم قالوا بحدوث العالم من غير محدث. وهؤلاء لما اعتقدوا أن كل موصوف أو كل ما قامت به صفة أو فعل بمشيئته، فهو محدث وممكن، لزمهم القول بحدوث كل موجود؛ إذ كان الخالق جل جلاله متصفًا بما يقوم به من الصفات والأمور الاختياريات، مثل أنه متكلم بمشيئته وقدرته، ويخلق ما يخلقه بمشيئته وقدرته، لكن هؤلاء اعتقدوا انتفاء هذه الصفات عنه؛ لاعتقادهم صحة القول بأن ما قامت به الصفات والحوادث فهو حادث؛ لأن ذلك لا يخلو من الحوادث وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإذا كان حادثًا كان له محدث قديم، واعتقدوا أنهم أثبتوا الرب، وأنه ذات مجردة عن الصفات، ووجوده مطلق لا يشار إليه ولا يتعين، ويقولون: هو بلا إشارة ولا تعيين، وهذا الذي أثبتوه لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو في الذهن، فكان ما أثبتوه واعتقدوا أنه الصانع للعالم إنما يتحقق في الأذهان لا فى الأعيان، وكان حقيقة قولهم تعطيل الصانع. فجاء إخوانهم في أصل المقالة. وقالوا: هذا الوجود المطلق المجرد عن الصفات هو الوجود الساري في الموجودات، فقالوا بحلوله في كل شيء. وقال آخرون منهم: هو وجود كل شيء، ومنهم من فرق بين الوجود والثبوت، ومنهم من فرق بين التعيين والإطلاق، ومنهم من جعله في العالم كالمادة في الصورة، ومنهم من جعله في العالم كالزبد في اللبن وكالزيت والشيرج فى السمسم والزيتون، وقد بسط الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن الأصل الذي أضلهم قولهم: ما قامت به الصفات والأفعال، والأمور الاختيارية أو الحوادث فهو حادث، ثم قالوا: والجسم لا يخلو من الحوادث، وأثبتوا ذلك بطرق؛ منهم من قال: لا يخلو عن الأكوان الأربعة: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. ومنهم من قال: لا يخلو عن الحركة والسكون فقط. ومنهم من قال: لا يخلو عن الأعراض، والأعراض كلها حادثة، وهي لا تبقى زمانين، وهذه طريقة الآمدي، وزعم أن أكثر أصحاب الأشعرية اعتمدوا عليها، والرازى اعتمد على طريقة الحركة والسكون. وقد بسط الكلام على هذه الطرق، وجميع ما احتجوا به على حدوث الجسم وإمكانه، وذكرنا في ذلك كلامهم هم أنفسهم فى فساد جميع هذه الطرق، وأنهم هم بينوا فساد جميع ما استدل به على حدوث الجسم وإمكانه، وبينوا فسادها طريقًا طريقًا بما ذكروه، كما قد بسط هذا فى غير هذا الموضع. وأما الهشامية والكَرَّامية، وغيرهم، ممن يقول بأنه جسم قديم، فقد شاركوهم في أصل هذه المقالة، لكن لم يقولوا بحدوث كل جسم، ولا قالوا: إن الجسم لا ينفك عن الحوادث؛ إذ كان القديم عندهم جسمًا قديمًا وهو خال من الحوادث، وقد قيل: أول من قال في الإسلام: إن القديم جسم هو هشام بن الحكم[هو هشام بن الحكم الشيباني، من أهل الكوفة، متكلم مناظر، من كبار الرافضة ومشاهيرهم، له مصنفات كثيرة منها [الإمامة] و[القدر] و[الرد على من قال بإمامة المفضول]، يقال: إنه عاش إلى خلافة المأمون، وتوفى سنة 971هـ]، كما أن أول من أظهر في الإسلام نفي الجسم هو الجهم بن صفوان. وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية كثير مشهور، فإن مرض التعطيل شر من مرض التجسيم، وإنما كان السلف يذمون المشبهة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي اللّه عنه ـ وإسحاق بن راهويه وغيرهما، قالوا:المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي. وابن كلاب ومن تبعه أثبتوا الصفات التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته، فأما التي تتعلق بمشيئته وقدرته فينفونها، قالوا: لأنها حادثة ولو قامت به الحوادث لكان حادثًا؛ لأن ما قبل الشيء لم يخل عنه وعن ضده، فلو قبل بعض هذه الحوادث لم يخل منه ومن ضده فلم يخل من الحوادث فيكون حادثًا. ومحمد بن كرَّام كان بعد ابن كُلاَّب في عصر مسلم بن الحجاج، أثبت أنه يوصف بالصفات الاختياريات،ويتكلم بمشيئته وقدرته، ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فلم يقل بقول السلف: إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بل قال: إنه صار يتكلم بمشيئته وقدرته، كما صار يفعل بمشيئته وقدرته بعد أن لم يكن كذلك، وقال هو وأصحابه في المشهور عنه: إن الحوادث التي تقوم به لا يخلو منها ولا يزول عنها؛ لأنه لو قامت به الحوادث ثم زالت عنه كان قابلاً لحدوثها وزوالها، وإذا كان قابلاً لذلك لم يخل منه، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وإنما يقبل على أصلهم أنه تقوم به الحوادث فقط، كما يقبل أن يفعلها ويحدثها، ولا يلزم من ذلك أنها لم تخل منه، كما لم يلزم أنه لم يزل فاعلا لها. والحدوث عندهم غير الأحداث. والقرآن عندهم حادث لا محدث؛ لأن المحدث يفتقر إلى إحداث بخلاف الحدوث. وهم إذا قالوا: كان خاليًا منها في الأزل وكان ساكنًا، لم يقولوا: إنه قام به حادث، بل يقولون: السكون أمر عدمي كما يقوله الفلاسفة ولكن الحركة أمر وجودي، بخلاف ما يقوله من يقوله من المعتزلة والأشعرية: إن السكون أمر وجودي كالحركة، فإذا حصل به حادث لم يكن ثم عدم هذا الحادث، فإنما يعدم الحادث بإحداث يقوم به وهذا ممتنع، وهم يقولون: إنه يمتنع عدم الجسم، وعندهم أن الباري يقوم به إحداث المخلوقات وإفناؤها، فالحوادث التي تقوم بهم تقوم به لو أفناها لقام به الإحداث والإفناء، فكان قابلاً لأن يحدث فيه حادث ويفني ذلك الحادث، وما كان كذلك لم يخل من إحداث وإفناء فلم يخل من الحوادث، و ما لم يخل منها فهو حادث، وإنما كان كذلك لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده كما قالت الكلابية، لكن المعتزلة يقولون:السكون ضد الحركة فالقابل لأحدهما لا يخلو عنه وعن الآخر، وهؤلاء يقولون: السكون ليس بضد وجودي، بل هو عدمي، وإنما الوجودي هو الإحداث والإفناء، فلو قبل قيام الإحداث والإفناء به لكان قابلاً لقيام الأضداد الوجودية، والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده. وهؤلاء لما أراد منازعوهم إبطال قولهم، كان عمدتهم بيان تناقض أقوالهم، كما ذكر ذلك أبو المعالي وأتباعه، وكما ذكر الآمدي تناقضهم من وجوه كثيرة، قد ذكرت في غير هذا الموضع، وغايتها أنها تدل على مناقضتهم لا على صحة مذهب المنازع. وثَمَّ طائفة كثيرة تقول: إنه تقوم به الحوادث وتزول، وإنه كلم موسى بصوت وذلك الصوت عدم، وهذا مذهب أئمة السنة والحديث من السلف وغيرهم، وأظن الكرامية لهم في ذلك قولان، وإلا فالقول بفناء الصوت الذي كلم به موسى من جنس القول بقدمه، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والحديث والفقه من السالمية وغيرهم، ومن الحنبلية والشافعية والمالكية، يقول: إنه كلم موسى بصوت سمعه موسى، وذلك الصوت قديم، وهذا القول يعرف فساده ببديهة العقل، وكذلك قول من يقول: كلمة بصوت حادث، وأن ذلك الصوت باق لا يزال هو وسائر ما يقوم به من الحوادث، هي أقوال يعرف فسادها بالبديهة. وإنما أوقع هذه الطوائف في هذه الأقوال ذلك الأصل الذي تلقوه عن الجهمية، وهو أن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث، وهو باطل عقلاً وشرعًا، وهذا الأصل فاسد مخالف للعقل والشرع، وبه استطالت عليهم الفلاسفة الدهرية، فلا للإسلام نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل قد خالفوا السلف والأئمة، وخالفوا العقل والشرع، وسلطوا عليهم وعلى المسلمين عدوهم، من الفلاسفة والدهرية والملاحدة بسبب غلطهم في هذا الأصل الذي جعلوه أصل دينهم،ولو اعتصموا بما جاء به الرسول لوافقوا المنقول والمعقول، وثبت لهم الأصل،ولكن ضيعوا الأصول فحرموا الوصول،والأصول اتباع ما جاء به الرسول. وأحدثوا أصولا ظنوا أنها أصول ثابتة، وكانت كما ضرب اللّه المثلين: مثل البناء والشجرة، فقال في المؤمنين والمنافقين: فالأصول الثابتة هي أصول الأنبياء، كما قيل: أيها المغتدى لتطلب علمــا ** كل علم عبد لعلم الرســول تطلب الفرع كي تصحح حكما ** ثم أغفلت أصل أصل الأصول واللّه يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. وهذه الأصول ينبني عليها ما في القلوب، ويتفرع عليها. وقد ضرب اللّه مثل الكلمة الطيبة التي في قلوب المؤمنين، ومثل الكلمة الخبيثة التي في قلوب الكافرين. و[الكلمة] هي قضية جازمة وعقيدة جامعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلام،وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم قضية، فالكلمة الطيبة في قلوب المؤمنين ـ وهي العقيدة الإيمانية التوحيدية ـ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فأصل أصول الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبات أصل الشجرة الطيبة وفرعها في السماء فبين بذلك أن الكلمة الطيبة لها أصل ثابت في قلب المؤمن، ولها فرع عال، وهي ثابتة في قلب ثابت، كما قال: وكذلك الأفعال الباطلة التي يعتقدها الإنسان عند الحقيقة تخونه ولا تنفعه، بل هي كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فمن كان معه كلمة طيبة أصلها ثابت كان له فرع في السماء يوصله إلى اللّه، فإنه سبحانه واللّه - سبحانه- بعث الرسل وأنزل الكتب، بأن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أمر به على ألسن رسله. وأصل عبادته معرفته بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به رسله؛ ولهذا كان مذهب السلف أنهم يصفون اللّه بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، والذين ينكرون بعض ذلك ما قدروا اللّه حق قدره، وما عرفوه حق معرفته، ولا وصفوه حق صفته، ولا عبدوه حق عبادته. واللّه - سبحانه - قد ذكر هذه الكلمة ماقدروا اللّه حق قدره في ثلاثة مواضع؛ ليثبت عظمته في نفسه، وما يستحقه من الصفات، وليثبت وحدانيته وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وليثبت ما أنزله على رسله، فقال في الزمر: وفي المواضع الثلاثة ذم الذين ما قدروه حق قدره من الكفار، فدل ذلك على أنه يجب على المؤمن أن يقدر اللّه حق قدره، كما يجب عليه أن يتقيه حق تقاته، وأن يجاهد فيه حق جهاده، قال تعالى: ودلت الآية على أن له قدرًا عظيمًا، لا سيما قوله:
|